فينبغي لنا -أيها الإخوة- أن نقف وقفة صدق والله مع أنفسنا ونتضرع لله -عزَّ وجل- فإنَّه لن يوفق للإخلاص إلا من أنطرح بين يدي الله-عزَّ وجل- وسأل الله -عزَّ وجل- الثَّبات والإخلاص، ثم بعد ذلك نتفقه في دين الله -عزَّ وجل- لانعبد الله بالبدع وبالتَّقليد، وإنما نعبد الله بفقه، ننظر ما هي أحب الأعمال، أصحاب النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأتون للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دلَّني على عمل ينجيني الله به من النَّار، دلَّني على عمل يدخلني الجنَّة، يا رسول الله ما أفضل الأعمال؟ دلني على عمل ينجيني من النار، أسئلة تلقى على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يقول حذيفة:" كان الناس يسألون رسول الله-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخير، وكنت أسأله عن الشَّر مخافة أن أقع فيه" فقه في دين الله-عزَّ وجلَّ-، عرفوا الخير وأبوابه، ثم تفقهوا في الشَّر ليتجنبوه.
فنحنأحوج ما يكون للفقه في دين الله -عزَّ وجلَّ-.
الشَّيطان استهوى كثير من النَّاس حقيقة في هذا الباب وانصرف بهم عن الفقه في دين الله -عزَّ وجل- بكثير من الأمور، لا يُطالَبون بها، نحن لا ننكر الدَّعوة إلى الله -عزَّ وجل- لا شكَّ أنَّ العبد مطالب أن يدعو إلى الله -عزَّ وجل-،مطالب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن قبل هذا يحقِّق النَّجاة لنفسه، كيف يدعو وكيف يأمر بالمعروف وكيف يردُّ على مخالف إن لم يعلم هو؟! وإذا علم ولم يعمل كيف يدعو للعلم وهو لا يعمل به؟! أبداً، الدَّعوة ملازمة تماماً للعمل وطاعة الله -عزَّ وجل-،ولهذا أئمة أهل السُّنة الذين يردون على أهل البدع والذين اشتغلوا بالدَّعوة ونالوا مانالوا من الفضل هم أئمة العُبَّاد والزُّهاد وأئمة النَّاس في الورع وحفظ ألسنتهم عن المحرم.
ونحن نجد التَّناقض اليوم في أحوالنا، تناقض عظيم، تجد شخص من أقوى النَّاس فيالرَّد على المخالف وإذا نظرت إليه تجده مقصر في الواجبات، هذا تناقض ويخشى والله على من هذه حاله أن يُخذل وأن يختم له بسوء.
ينبغي أن يعرف العبد موقعه وما الذي يحسن، هذا بعد أن يحقِّق الواجبات، ثم بعد ذلك يأتي على ما يحسن من الأعمال التي تنتفع بها الأمة، فالأمة لا يمكن أن تشتغل بعمل واحد، لا يمكن للأمة أن تشتغل بالدعوة وتترك الأمورالأخرى، ولا يمكن للأمة أن تشتغل بالطب أو الهندسة وتترك الأمور الأخرى، ولا يمكن للأمة أن تشتغل بالجهاد وتترك الأمور الأخرى، ولهذا لما جاء النَّبيَّ -صلَّى الله عليهوسلَّم- من جاءه وسأله: يا رسول الله دلَّني على أفضل الأعمال، فقال لبعضهم: الصَّلاة في أولوقتها، وقال لآخر: الجهاد في سبيل الله، وقال لآخر: برُّ الوالدين، قال العلماء: أجاب الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كل رجل بما يحسن وبما يجب عليه؛ ولهذا لما جاءه الغلام قال: يا رسول الله ائذن لي في الجهاد، قال له الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) فانظروا إلى هذا الجهاد وما فيه من الخير والفضل،والرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحرص الأمة على الأمة، لو كان يعلم أنَّ في جهاد هذا الغلام الذي جاءه خير له هل يصرفه الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن عمل فاضل إلى عمل أقل منه؟!
لا يمكن، لكن هناك واجبات، ليس من دين الله -عزَّ وجل- أن أصلح النَّاس وأنا مقصروأن أشتغل بدعوة النَّاس وأهلي في حاجة لهذه الدعوة، وأن أتوسَّع في النَّوافل في باب العلم والعمل وأنا لم أحقِّق الواجبات.
إذاً نحن حقيقة يحتاج لنا أن نقف وقفة صدق مع أنفسنا و نحقِّق عبادة الله -عزَّ وجل- بما شرع النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وهذا الكلام كله يدخل تحت باب ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ العمل الصَّالح هو ما جاء به النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ورسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان مثالاً يمشي على الأرض لدين الله -عزَّ وجل-وقد قالت عائشة -رضي الله عنها- عندما سُئلت عن خلق الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- قالت:"كان خلقه القرآن"، ومن تأمَّل سيرة النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وقارن بين حالنا وحال النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- علم والله تفريطنا؛ فالرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان أقوىالنَّاس وأقوى الأمة وأخشاها لله -عزَّ وجل- في دين الله -عزَّ وجل-، ومع هذا كان أحسن النَّاس خلقاً، ونحن اليوم إذا استقام الشَّاب كان من أشد النَّاس على غيره: شدَّة في الكلام وغلظة وتنفير للنَّاس، هل هذا كان من هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-؟ يأخذون طرفًا من الدَّعوة وهو الهجر ويغفلون جانب آخر وهو التَّأليف؟ كثير من النَّاس اليوم في دعوة المخالف لا يعرف في دعوتهم إلا هذا المنهج وهو الهجر والشِّدة والغلظة، والنَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما يقول شيخ الإسلام كان يهجر أقواماً ويتألَّف آخرين، وليس هناك منهج ثابت في عصر أولشخص أو لمدعو أن يلتزم منهج الهجر أو التأليف، وإنما هذا يختلف باختلاف النَّاس؛ فإن النَّاس يختلفون، منهم من ينفع معه الهجر ومنهم من يصلحه التَّأليف، والمقصود هو الرُّجوع بهذا المخالف لدين الله -عزَّ وجل-، ليس المقصود هجره ولا المقصود تألُّفه، ما الهجر ولا التَّأليف إلا وسيلة للرجوع بهذا المخالف للسنة، إذا رأينا رجل يغلب عليه الرِّياسة والفضل وحوله أتباع فهذا ليس من الحكمة أن نهجره؛ لأنه لا بهجره المقصود الشَّرعي الذي بيَّنه الله -عزَّ وجل- في هجر النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لكعب بن مالك وصاحبيه وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فهذا لا يحصل؛ لأنَّ هذا حوله أنصار وأتباع، فالذي يجدي مع مثل هذا التَّأليف.
فالمقصود أنه ليس هناك منهج ثابت، ثم إنَّ النَّاس يتفاوتون فهناك من النَّاس من لا يستطيع أن يحقِّق الـتَّأليف هو في نفسه لعجزه، وهناك من النَّاس من لا يستطيع أنيحقِّق الهجر لضعف في نفسه، وخير النَّاس من كان على هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، يعامل النَّاس بما كان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يعامل به من يدعوه، فيهجر أحياناً ويتألف أحياناً، ويشتد أحياناً ويلين أحياناً، وهذا كله يسير فيه العبد بفقه، بفقه أولاً بالمسائل المخالف فيها، وفقه بحال المدعو، وفقه بالعصر الذي يعيش؛ فيه فليس من الحكمة أن تهجر شخصًا في مجتمع يكثر فيه أهل البدع، فتهجره وتتركه لألف مبتدع يتلقَّفه ويغويه،وإنما يكون الهجر إذا وجد العصر الذي كان في عصر النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، عزَّة الإسلام، وكما كان في بعض العصور المتقدِّمة عندما هجر سلف الأمة من هجروا فأثَّر هذا الهجر، أما في هذه العصور فأقرب النَّاس إليك ابنك لو هجرته وجدت من يؤويه ويفسده عليك،أنا لا أقول بإهمال هذا الجانب لكنَّ المقصود أن نقف عند كثير من الأعمال ومن الوسائل التي نستخدمها في الدَّعوة وغيرها وقفة نميز بين الأمور، وننظر في هدي النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فالنَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- كان يخاطب بعض الكفار: يخاطب هرقل يقول: إلى هرقل عظيم الرُّوم، ويكنِّي عبد الله بن أبيٍّ يقول: أبو الحبَّار وهو زعيم المنافقين، في حين أنَّه كان يهجر كعب بن مالك، هجر عمار بن ياسر، هجر زوجاته شهراً، فليس المقصود بالهجر بقرب الشَّخص وبعده عن الدِّين، بل إنَّه قد يهجر الرَّجل الفاضل الذي يعرف مكانة الشَّخص في الدِّين.
ثم إن الهجر يختلف باختلاف من يحقِّق هذا الهجر،وهناك أئمة كبار، لو هجر إمام من الأئمة الكبار رجل من النَّاس فإنه يؤثر فيه الهجر، وقد لا يؤثر إذا كان من شخص عامي من عوام النَّاس؛ لأنه إذا هجره لا يحقِّق شيئًا، وإنما إذا هجر الإمام الأعظم وهجر العالم الكبير أو إمام المسجد، أو هجر الرَّجل ابنه أو زوجته فإن هذا يؤثِّر، أما أن تهجر رجلاً من النَّاس لا تعرفه ولا يعرفك وتقول: أنا أقسم ألاَّ أكلِّمك، كما يحصل من بعض الشَّباب هذا ليس من الدِّين، إذا هجرته لن يؤثِّر فيه، وهجره ليس مقصود إنما هو وسيلة للرجوع به .
إذاً هذا ما يتعلَّق بالدَّعوة لدين الله -عزَّ وجل- والتَّدرج في عبادة الله -عزَّ وجل-. الجانب الآخر -وهذا أيضاً قد يتصل بالموضوع- التَّعامل مع المخالفين، يعني التَّعامل مع الخلق، الله -عزَّ وجل- ما تعبدنا والله بأذية أحد من الخلق لا بقول ولابفعل، وإنما أمر الله -عزَّ وجل- بالإحسان للخلق والرَّحمة بهم، ومن رحمة الله -عزَّ وجل- بخلقه أن شرَّع لأنبيائه وشرَّع لأهل العلم دعوة النَّاس إلى دين الله -عزَّ وجل- إذاً أصل الدعوة رحمة، ينبغي أن نعرف أيها الإخوة أنَّ أصل الدَّعوة لدين الله -عزَّ وجل- رحمة ليست عقوبة ننزلها بالمخالفين، فالإنسان يدعو أحبَّ النَّاس إليه، ونحن اليوم عندما ندعو المخالفين ونغض الطَّرف عن أخطائنا يعني ما ندري ما نسمي هذا الأمر! هل الدَّعوة والرَّد على المخالف هي عقوبة ننزلها بالنَّاس؟! هي رحمة والله، وإن من أعظم البرِّ أن تناصح الشَّخص، ونحن نغفل عن هذا الجانب، وأنت إذا نصحت أخًا لك في المنهج وفي العقيدة ظنَّ النَّاس أنك عدو لهذا المنهج ولهذه العقيدة، وأنَّ من سمات هذا المنهج الشِّدة على المخالفين، وأن نغضَّ الطَّرف عن أخطائنا.