رمضان يتحدث
رمضان يتحدث
أيها المشتاقون إلى الجنان، أيها الوجلون من عذاب النيران، أيها الفارون إلى الرحمن، يا من تنشدون للخير واحات، يا من تلتمسون مواسم الخيرات، يا من تستشرفون النفحات والرحمات، ها قد أتاكم شهركم، فيه رفعتكم وعزكم، بغيتكم ومرامكم، هدية ربكم، وافد الخير، مبدد الضير، وراحلة السير، هيا نطلق لخيالنا العنان، لا نتجاوز أخبار وحي حسان، غير أن خيالنا: أن يتحدث رمضان.
الطارق
افتحوا الأبواب، إني شهركم وحبيبكم، أتيتكم بالنفحات والرحمات، من عند رب الأرض والسماوات، مالي أراكم تتباطئون، أوما تشتاقون؟ يبدو أنكم لا تعرفونِ.
إنني أنا رمضان، الذي أًنزل فيّ القرآن، هدىً لكم وبينات من الهدى والفرقان، إن كنتم لا تعلمون قدري فاستمعوا إلى من وعى أمري، إنه النبي العدنان، حبيب الرحمن، استمعوا يا ذوي العقول، إلى قول الرسول، إذ يقول:
((أتاكم شهر رمضان؛ شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)) [صححه الألباني].
أول الليالي
منذ أول ليلة أضع رحالي في أرضكم، لا أضن عليكم بما أودعنيه الله، فالخير مع أول الليالي، فإذا كان أول عهدي بلياليكم: ((صُفدت الشياطين، وغُقت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب، ويُنادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) [صححه الألباني].
تفكروا يا أمة خير الأنام في هذه النفحات، لقد سهل لكم الرحمن سبيل الخير ودواعيه، صفد شياطينكم التي تتسلط عليكم، ونداء المنادي بالإقبال على الخير، والإقصار عن الشر، هو في حس كل منكم، فأقبلوا بالتوبة والإنابة، وفروا فرار الأسد من الذنوب والمعاصي، أوما يثير شوقكم أبواب الجنان المفتحة، أوما يقوي سعيكم أبواب النيران الموصدة، أو ما ترغبون في عتق من النيران، إنها أيام وليالي وشيء من الصبر، تكون النجاة والسعادة الأبدية.
أيها الصائم
يا من حُرمت الطعام والشراب والشهوات في نهاري، أبشر يوم القيامة بخاصية الدخول من باب أهل الصيام: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون منه، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)) [صححه الألباني]، فكما أنك كابدت الجوع والعطش، فإنك تدخل من حيث يُمحى الجوع والعطش، وجزاؤك من جنس ما عملت.
وهنيئًا لك الفوز برضوان الله ومغفرته، أو ما علمت أن: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]، فصم نهاري تصديقًا بأجره وأخلص النية في صيامك متوجهًا به إلى الله لنيل ثوابه، تمحى لك سيئات أثقلت كاهلك، وسودت صحيفتك، فهلم إلى مغفرة من الله.
وأبشر أيها الصائم فقد أضاف الله صيامك إلى نفسه شكرًا، فقد حدث نبيك صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي)) [صححه الألباني]، وذلك "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه إلا الله أضافه الله إلى نفسه".
وأبشر بعظم الجزاء، فالله تعالى يقول في نفس الحديث: ((وأنا أجزي به)) [صححه الألباني]، وما أدراك ما هو الجزاء؟! معنى ذلك: (أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، إلا الصوم فإن الله يثيب عليه بلا حد ولا عدد)، أو لم تقرأ قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [الزمر:10]؟
ثم أبشر أيها الصائم بثمن تلك الرائحة التي تنبعث من فيك على أثر الصيام، والتي قد تحذر بسببها من الاقتراب من الناس حتى لا يشمونها، أبشر فهي إن لم تطب للناس فهي عند رب الناس أطيب من ريح المسك، ذلك خبر من نبيك غير مكذوب.
أيها القائم
بشراك المغفرة بقيامك لياليّ، فإن من قامها: ((إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه مسلم]، ما زلت أذكر يوم أن جاء جبريل الأمين إلى أمين الأرض يخبره: ((أن شرف المؤمن قيامه بالليل)) [حسنه الألباني]، فهذا شرفك، ويتأكد الحرص على هذا الشرف في أيامي أيام الشرف، ولقد قام بعض لياليّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم خشي أن يفرض قيامي عليكم فأمسك، فلما لحق بالرفيق الأعلى جمع الفاروق الناس على قيام لياليّ لما انتفت العلة، ولما كنت عليك حريصًا فإني أوصيك بألا تنصرف قبل الإمام فإن ((الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته)) [صححه الألباني].
فاستجمع قلبك وفكرك وهمك بين يدي الله تعالى حتى تحظى بالمغفرة.
أحيها تحيا
ليلة القدر، ليلة من لياليّ أحسبك لا تجهلها، ولكن أرى أنك لا تستشعر فضلها، هب أنك عشت ثلاثًا وثمانين سنة، فما تكون حصيلة عبادتك فيها؟ إن قلت ربعها فأنت عالي الهمة، فإن هذة الليلة تفضل العبادة فيها عبادة ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة.
إن هذه الليلة يقول عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]، إنها تعوض قصر أعماركم يا أمة الإسلام، فأنتم أقصر أعمارًا من الأمم قبلكم، فأعطاكم هذه الليلة، فاجتهدوا في إحيائها بالصلاة والذكر والقرآن وسائر الطاعات، وكان من دعاء نبيكم صلى الله عليه وسلم فيها: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [صححه الألباني].
أفئدة الطير
أو ما علمتم ذلك الخبر من وحي السماء، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة أقوام مثل أفئدة الطير)) [رواه مسلم]، فيا من يبتغي رقة القلب، لن تجد مثل ساعاتي يتهدهد فيها قلبك، ويتقلب في نعيم الخوف والرجاء، فتذرف دموع النجاة، وهذه لعمر الله كنوز تستخرج بمعاول الصوم، والذي تُمنح معه "رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب بنور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان".
درر من فم الأديب
ما أروع أن تخرج الكلمات من فم أديب يداعب المعاني، في ظلال حبكة شرعية أصيلة لا شطط فيها ولا جنوح، أرأيتم يا راغبين في الصحة والعافية أديبكم الرافعي إذ وعى أسرار صومي، فقال: (وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم).
ويا من ترغبون في النظر إلى جمال الحياة، ها هو الأديب يقول: (ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام لرأوا هذا الشهر نظامًا عمليًا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة؛ فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضًا ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئًا، كما يتساوى الناس جميعًا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع، فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحسان الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة).
أنذركم دعوة الأمينَيْن
إنما أتيتكم رحمة من ربي بكم، لذا فأنا أشفق عليكم من أن يأتي وقت أحزم فيه أمتعتي عندما ينادي مناد الرحيل، دون أن تبيض صحائفكم بنور المغفرة، وما زال صدى الحديث بين أمين السماء وأمين الأرض يتردد في نفسي فيزيدني شفقة عليكم، لا أراكم ممن تصيبهم دعوة الأمينين، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) [صححه الألباني] فاحذر أن تصيبك دعوتها، وما هذا الدعاء إلا لأن الله تعالى قد هيأ لكم سبل المغفرة، فمن خرج من أيامي دون غنيمة، فلا حظ له من الخير.
ففروا إلى الله
إن الانسجام والتناغم بينكم وبيني لا يتم إلا إذا خضعت قلوبكم وجوارحكم لنداء "ففروا إلى الله"، بتوبة نصوح، تغلقون عبرها صفحات الماضي المهترئة، وتخلعون ثيابه الرثة، لا أقبل حفاوة قلوب أصرت على غضب الجبار، فإن رائحة العصيان تزكم أنفي، حيث أتيت من بين رياض الطهر، ليس لي مكان بين روث العصيان، وأبشروا إن كانت قد أرهقتكم ذنوبكم، فإن رحلي تعلوه نفحات المغفرة لمن تاب إلى الله متابًا، فخل الذنوب كبيرها وصغيرها.
خـل الذنوب صغيرها وكـبيرها فهـو التقى
واصـنع كماش فوق أر ض الشوك يحـذر ما يرى
لا تحـقرن صـغيـرة إن الجـبال من الحصى
وهل يستقيم أن ينهاك ربك عن المباحات ثم تأتي أنت المحرمات؟!
هيا اجعلني بداية عهد جديد لك مع الله تعالى، حتى يفرح ربك بتوبتك وإقبالك: ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليه طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته)) [صححه الألباني وروى نحوه البخاري ومسلم]، ومن فرط فرحته قال هذا الرجل: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [رواه مسلم].
فالرحمن يفرح بعودتك إليه، فهو تعالى أرحم بك من أمك وأبيك، فلا تعرض نفسك بمخالفته إلى سخطه وغضبه.
أيها النائمون
استيقظوا من نومكم فإن وقتي ثمين، أتهربون بنومكم مني؟! أتنأون بأنفسكم عن خيري ونفحاتي، استيقظوا فقد أخذ الناس رواحلهم وهرعوا يحجزون مقاعدهم في الجنان عبر أيامي وليالي، أو ما تودون أن يشفع فيكم صيام نهاري؟ أو ما تودون أن تعتق منكم الرقاب؟ هل هنت عليكم حتى تولوني أدباركم؟ ما أنا إلا ضيف خيامكم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، أو لا تلقوني بعد عامكم هذا، هل ضمنتم أن أعود إليكم؟! كلا وربي قد يأتيكم الموت بغتة، وينقطع عنكم عبيري وشذاي، عمروا أوقاتي بالطاعة تفلحوا، وها قد نصحتكم بما أُرسل به نبيكم والسلام.
رمضان يتحدث
أيها المشتاقون إلى الجنان، أيها الوجلون من عذاب النيران، أيها الفارون إلى الرحمن، يا من تنشدون للخير واحات، يا من تلتمسون مواسم الخيرات، يا من تستشرفون النفحات والرحمات، ها قد أتاكم شهركم، فيه رفعتكم وعزكم، بغيتكم ومرامكم، هدية ربكم، وافد الخير، مبدد الضير، وراحلة السير، هيا نطلق لخيالنا العنان، لا نتجاوز أخبار وحي حسان، غير أن خيالنا: أن يتحدث رمضان.
الطارق
افتحوا الأبواب، إني شهركم وحبيبكم، أتيتكم بالنفحات والرحمات، من عند رب الأرض والسماوات، مالي أراكم تتباطئون، أوما تشتاقون؟ يبدو أنكم لا تعرفونِ.
إنني أنا رمضان، الذي أًنزل فيّ القرآن، هدىً لكم وبينات من الهدى والفرقان، إن كنتم لا تعلمون قدري فاستمعوا إلى من وعى أمري، إنه النبي العدنان، حبيب الرحمن، استمعوا يا ذوي العقول، إلى قول الرسول، إذ يقول:
((أتاكم شهر رمضان؛ شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)) [صححه الألباني].
أول الليالي
منذ أول ليلة أضع رحالي في أرضكم، لا أضن عليكم بما أودعنيه الله، فالخير مع أول الليالي، فإذا كان أول عهدي بلياليكم: ((صُفدت الشياطين، وغُقت أبواب النار، فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة، فلم يُغلق منها باب، ويُنادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) [صححه الألباني].
تفكروا يا أمة خير الأنام في هذه النفحات، لقد سهل لكم الرحمن سبيل الخير ودواعيه، صفد شياطينكم التي تتسلط عليكم، ونداء المنادي بالإقبال على الخير، والإقصار عن الشر، هو في حس كل منكم، فأقبلوا بالتوبة والإنابة، وفروا فرار الأسد من الذنوب والمعاصي، أوما يثير شوقكم أبواب الجنان المفتحة، أوما يقوي سعيكم أبواب النيران الموصدة، أو ما ترغبون في عتق من النيران، إنها أيام وليالي وشيء من الصبر، تكون النجاة والسعادة الأبدية.
أيها الصائم
يا من حُرمت الطعام والشراب والشهوات في نهاري، أبشر يوم القيامة بخاصية الدخول من باب أهل الصيام: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يُقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون منه، فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد)) [صححه الألباني]، فكما أنك كابدت الجوع والعطش، فإنك تدخل من حيث يُمحى الجوع والعطش، وجزاؤك من جنس ما عملت.
وهنيئًا لك الفوز برضوان الله ومغفرته، أو ما علمت أن: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]، فصم نهاري تصديقًا بأجره وأخلص النية في صيامك متوجهًا به إلى الله لنيل ثوابه، تمحى لك سيئات أثقلت كاهلك، وسودت صحيفتك، فهلم إلى مغفرة من الله.
وأبشر أيها الصائم فقد أضاف الله صيامك إلى نفسه شكرًا، فقد حدث نبيك صلى الله عليه وسلم عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي)) [صححه الألباني]، وذلك "لما كانت الأعمال يدخلها الرياء، والصوم لا يطلع عليه إلا الله أضافه الله إلى نفسه".
وأبشر بعظم الجزاء، فالله تعالى يقول في نفس الحديث: ((وأنا أجزي به)) [صححه الألباني]، وما أدراك ما هو الجزاء؟! معنى ذلك: (أن الأعمال قد كشفت مقادير ثوابها للناس، وأنها تضاعف من عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، إلا الصوم فإن الله يثيب عليه بلا حد ولا عدد)، أو لم تقرأ قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) [الزمر:10]؟
ثم أبشر أيها الصائم بثمن تلك الرائحة التي تنبعث من فيك على أثر الصيام، والتي قد تحذر بسببها من الاقتراب من الناس حتى لا يشمونها، أبشر فهي إن لم تطب للناس فهي عند رب الناس أطيب من ريح المسك، ذلك خبر من نبيك غير مكذوب.
أيها القائم
بشراك المغفرة بقيامك لياليّ، فإن من قامها: ((إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [رواه مسلم]، ما زلت أذكر يوم أن جاء جبريل الأمين إلى أمين الأرض يخبره: ((أن شرف المؤمن قيامه بالليل)) [حسنه الألباني]، فهذا شرفك، ويتأكد الحرص على هذا الشرف في أيامي أيام الشرف، ولقد قام بعض لياليّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم خشي أن يفرض قيامي عليكم فأمسك، فلما لحق بالرفيق الأعلى جمع الفاروق الناس على قيام لياليّ لما انتفت العلة، ولما كنت عليك حريصًا فإني أوصيك بألا تنصرف قبل الإمام فإن ((الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته)) [صححه الألباني].
فاستجمع قلبك وفكرك وهمك بين يدي الله تعالى حتى تحظى بالمغفرة.
أحيها تحيا
ليلة القدر، ليلة من لياليّ أحسبك لا تجهلها، ولكن أرى أنك لا تستشعر فضلها، هب أنك عشت ثلاثًا وثمانين سنة، فما تكون حصيلة عبادتك فيها؟ إن قلت ربعها فأنت عالي الهمة، فإن هذة الليلة تفضل العبادة فيها عبادة ما يزيد على ثلاث وثمانين سنة.
إن هذه الليلة يقول عنها النبي محمد صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ غفر له ما تقدم من ذنبه)) [متفق عليه]، إنها تعوض قصر أعماركم يا أمة الإسلام، فأنتم أقصر أعمارًا من الأمم قبلكم، فأعطاكم هذه الليلة، فاجتهدوا في إحيائها بالصلاة والذكر والقرآن وسائر الطاعات، وكان من دعاء نبيكم صلى الله عليه وسلم فيها: ((اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)) [صححه الألباني].
أفئدة الطير
أو ما علمتم ذلك الخبر من وحي السماء، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم: ((يدخل الجنة أقوام مثل أفئدة الطير)) [رواه مسلم]، فيا من يبتغي رقة القلب، لن تجد مثل ساعاتي يتهدهد فيها قلبك، ويتقلب في نعيم الخوف والرجاء، فتذرف دموع النجاة، وهذه لعمر الله كنوز تستخرج بمعاول الصوم، والذي تُمنح معه "رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة، فإن الشبع مما يذهب بنور العرفان ويقضي بالقسوة والحرمان".
درر من فم الأديب
ما أروع أن تخرج الكلمات من فم أديب يداعب المعاني، في ظلال حبكة شرعية أصيلة لا شطط فيها ولا جنوح، أرأيتم يا راغبين في الصحة والعافية أديبكم الرافعي إذ وعى أسرار صومي، فقال: (وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم).
ويا من ترغبون في النظر إلى جمال الحياة، ها هو الأديب يقول: (ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام لرأوا هذا الشهر نظامًا عمليًا من أقوى وأبدع الأنظمة الصحيحة؛ فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضًا ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئًا، كما يتساوى الناس جميعًا في ذهاب كبريائهم الإنساني بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع، فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحسان الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة).
أنذركم دعوة الأمينَيْن
إنما أتيتكم رحمة من ربي بكم، لذا فأنا أشفق عليكم من أن يأتي وقت أحزم فيه أمتعتي عندما ينادي مناد الرحيل، دون أن تبيض صحائفكم بنور المغفرة، وما زال صدى الحديث بين أمين السماء وأمين الأرض يتردد في نفسي فيزيدني شفقة عليكم، لا أراكم ممن تصيبهم دعوة الأمينين، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد، من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) [صححه الألباني] فاحذر أن تصيبك دعوتها، وما هذا الدعاء إلا لأن الله تعالى قد هيأ لكم سبل المغفرة، فمن خرج من أيامي دون غنيمة، فلا حظ له من الخير.
ففروا إلى الله
إن الانسجام والتناغم بينكم وبيني لا يتم إلا إذا خضعت قلوبكم وجوارحكم لنداء "ففروا إلى الله"، بتوبة نصوح، تغلقون عبرها صفحات الماضي المهترئة، وتخلعون ثيابه الرثة، لا أقبل حفاوة قلوب أصرت على غضب الجبار، فإن رائحة العصيان تزكم أنفي، حيث أتيت من بين رياض الطهر، ليس لي مكان بين روث العصيان، وأبشروا إن كانت قد أرهقتكم ذنوبكم، فإن رحلي تعلوه نفحات المغفرة لمن تاب إلى الله متابًا، فخل الذنوب كبيرها وصغيرها.
خـل الذنوب صغيرها وكـبيرها فهـو التقى
واصـنع كماش فوق أر ض الشوك يحـذر ما يرى
لا تحـقرن صـغيـرة إن الجـبال من الحصى
وهل يستقيم أن ينهاك ربك عن المباحات ثم تأتي أنت المحرمات؟!
هيا اجعلني بداية عهد جديد لك مع الله تعالى، حتى يفرح ربك بتوبتك وإقبالك: ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليه طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته، عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته)) [صححه الألباني وروى نحوه البخاري ومسلم]، ومن فرط فرحته قال هذا الرجل: ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) [رواه مسلم].
فالرحمن يفرح بعودتك إليه، فهو تعالى أرحم بك من أمك وأبيك، فلا تعرض نفسك بمخالفته إلى سخطه وغضبه.
أيها النائمون
استيقظوا من نومكم فإن وقتي ثمين، أتهربون بنومكم مني؟! أتنأون بأنفسكم عن خيري ونفحاتي، استيقظوا فقد أخذ الناس رواحلهم وهرعوا يحجزون مقاعدهم في الجنان عبر أيامي وليالي، أو ما تودون أن يشفع فيكم صيام نهاري؟ أو ما تودون أن تعتق منكم الرقاب؟ هل هنت عليكم حتى تولوني أدباركم؟ ما أنا إلا ضيف خيامكم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، أو لا تلقوني بعد عامكم هذا، هل ضمنتم أن أعود إليكم؟! كلا وربي قد يأتيكم الموت بغتة، وينقطع عنكم عبيري وشذاي، عمروا أوقاتي بالطاعة تفلحوا، وها قد نصحتكم بما أُرسل به نبيكم والسلام.