الله الرحمن الرحيم
من محاضرات الملتقي الأسري بمركز الإمام الألباني - رحمه الله تعالى -
بقلم وتقديم : الأخت أم عبدالله ــ نجلاء الصالح حفظها الله :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :-
لقد كانت الغيرة موجودة حتى في بيت النبوة ، بين نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فها هي السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - ، لما انقضت عدتها من أبي سلمة - رضي الله عنه - ، أرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبها، فقالت إن لي بنتا وأنا امرأة غيور ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أما إبنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله ان يذهب بالغيرة ) صحيح رواه مسلم [ 3/918 ] .
وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - من أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وأشدهن غيرة ، لكنها لم تمنعه بحبها له حقا منحه الله تعالى إياه أو شرعا أدَاه .
ولقد أهدته إحدى زوجاته - صلى الله عليه وسلم - إناء به طعام في يوم عائشة - رضي الله عنهن - فألقته فكسرته ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( طعام بطعام ، وإناء بإناء ) [ صحيح الجامع 3911 ] .
وفي رواية : ( طعام كطعامها وإناء كإنائها ) [ صحيح الجامع 3912 ] .
وقد قالت - رضي الله عنها - : ( ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجه رضي الله عنها ، وما رأيتها قط ، ولكن كان يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثمَ يقطعها أعضاء ثمَ يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له ، كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ، فيقول : إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ) متفق عليه .
وفي رواية : قالت - رضي الله عنها - : فأغضبته يوما ، فقلت : خديجة ؟ فقال : إني رزقت حبها ) [ مختصر صحيح مسلم 1672] .
وعنها أيضا - رضي الله عنها - قالت : ( استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرف استئذان خديجة ، فارتاح لذلك ، فقال : " اللهم هالة بنت خويلد " ، فغرت . فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها ) [مختصر مسلم 1674 ] .
قال شيخنا الألباني يرحمه الله تعالى في التعليق على الحديث : زاد أحمد في رواية : ( قالت : فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ، أو عند المخيلة ، حتى ينظر أرحمة أم عذاب ) [ وإسناده على شرط مسلم ] .
وفي رواية أخرى له قال : ( ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزفني الله عز وجل منها ولدها إذ حرمني أولاد النساء ) .
وفي رواية أخرى له وللطبراني ذكرها الحافظ في الفتح (7/ 107 ) من طريق نجيح عنها بلفظ : ( فغضب حتى قلت : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير ) [ مختصر صحيح مسلم صفحة : 445- الحاشية - ] .
وعنها - رضي الله عنها - أنها قالت : قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا ،
[ قال بعض الرواة : تعني قصيرة ] فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) [ صحيح الجامع 5140 ] .
الله أكبر!! كلمة " قصيرة " ، لو مزجت بماء البحر لمزجته ، فكيف بكلام كثير من الناس في زماننا هذا ، وما الذي سيمزجه ؟؟ رحمــــــــــــــاك ربي .
أما لنا في حسن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشرته ، وتوجيهه ، وفي حسن خلق أمهات المؤمنين والصحب الكرام - رضي الله عنهم - أجمعين أسوة حسنة ؟؟ .
أخي في الله ... أختاه : إنها دعوة إلى سباق ... سباق محبة في الله - عز وجل - ، لننال محبته - سبحانه - ، سباق إلى الأفضل ، سباق إلى سعادة الدارين : الدنيا والآخرة مع من نحبهم في الله ، وبالذات مع الأزواج ، لأن الغيرة فيهم وعليهم أشد . ما أجمل أن يجمع بين الزوجين حب في الله ، إلى جانب المودة والرحمة .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تحابَ رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل إشدهما حبا لصاحبه ) (حديث صحيح) انظر : [ الصحيحة 450 ] .
وعنه - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تحاب إثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ) (حديث صحيح) انظر : [ صحيح الجامع 5594 ] .
إنها سعادة الدنيا : بالتوافق ، والإنسجام ، وراحة النفس ، والطمأنينة والقناعة ، والرضا والتسليم لأمره . والمسابقة إلى الخيرات بإذنه ، وتقديم محبة الله ورسوله على الأهواء والشهوات ، واغتنام الأوقات سويا في الطاعات ، فذلك خير من ضياعه هدرا بالمشــاكل والخلافــات .
وسعادة الآخرة :- لقوله تعالى : - ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ) [ يس 55 -- 56 ] .
إن المحبة فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،
قد تتحول بكثرة المشاكل ، والصدَ ، والعناد ، والعتاب ، والبعد عن المنهج الرباني الذي ارتضاه - سبحانه - ، مما يحمل أصحاب هذه القلوب على البحث عن المودة ، والرحمة ، والراحة ، ليسكنوا إليها .
فلنتق الله في أنفسنا ... فلنتق الله في أزواجنا ... فلنتق الله في أبناءنا ... ولنتق الله فيمن نحب !!
نعم نغار ... نغار عليهم من نسمة هواء تؤذيهم ، ومن أي عمل يرديهم !! .
نعم نغار ... لكن ليس بالقدر الذي يجعلنا كالطوق حول أعناقهم ، يتمنون زواله !!
نعم نغار ... لكن لا ينبغي أن نمنعهم حقا منحهم الله تعالى إياه ، بل نرضى ونسلم لقضاه !! .
ونسأل الله تعالى أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * اؤلئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) [ البقرة - 85- 86 ] .
إن المحبة لا تأتي بفرض الذات ، ولا بالسيطرة وحب التملك ، ولا يُسعى إليها بالمعاصي ، والظلم ، والشعوذة والتعاليق والحجب ، بل إن ذلك كله من أهم أسباب زوالها .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تواد إثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ) (حديث صحيح) انظر : [ صحيح الجامع 5603 ] .
اخي في الله ... أختاه : - إنَ فاقد الشيء لا يعطيه ، فكونوا على ثقة بأنفسكم ، وامنحوا الكثير من المحبة والثقة لمن حولكم، تجدونهم أكثر لكم حبا ، وأشد بكم تمسكا .
كونوا عونا لهم على طاعة الله ، وتقوى الله ، ومحبة الله وما والاه .
وادعوا الله تعالى أن يجمعكم بهم مع المتحابين في جلاله ، وأن يظلكم يظله يوم لا ظل إلا ظله .
وتذكروا قوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف 67 .
وقوله تعالى : ( فإذا جاءت الصاخَة . يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرىْ منهم يومئذ شأن يغنيه ) عبس 32 – 37 .
وعليكم بالغيرة المحمودة ، إذ أنها خاصية النفوس الشريفة الزكية ، التي زينت بتقوى الله تعالى والرضى بقضاه ، وهذبت بالأخلاق الكريمة ، ونقيت من الأخلاق الذميمة ، وتوقفت عند حدود الله ابتغاء مرضاة الله - سبحانه - ، " توحيدا واتباعا " .
إن الغيرة على الأعراض في الجاهلية ، كانت تعد من مكارم الأخلاق ، نشبت بسببها حروب ، وغزوات ، ووئدت بنات ، غيرة عليهن ! ، خشية وقوعهن بالفاحشة إن كبرن ، وما قد يلحقن بأهليهن من عار !! .
وبعد أن منَ الله علينا بالإسلام حرَم وأد البنات ، وحث على درء المفاسد . حفظ الحقوق ، وحرَم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وشرع الجهاد بشروطه ، لتصان النفس والدين ، ويصان العرض والأرض، ومن قتل دون ذلك نال الشهادة .
فعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) صحيح رواه : (أحمد ) انظر : [ صحيح الجامع 6445] .
فما بال المسلمين في أيامنا ؟ غارت الغيرة من نفوسهم ، وذهب الحياء، فذهب ماء الوجوه وبهاؤها ، إلا ما رحم ربي .
من النساء من تغار من الكافرات والمتبرجات ، فتقلدهن تقليدا أعمى ، في اللباس ، والتسريحة ، والمشية ، والكلام .. وفي السلوك ، والأخلاق . فكثر التبرج ، والإختلاط ، والسفور، والفسق ، والفجور . نسأل الله العافية .
وللأسف لحق بهن ــ أشباه الرجال ــ يحثون المسير نحو متاع دنيوي زائل ، ويضعون أمر الدين جانبا ، يجاهرون بالمعاصي ... أغان ساقطة ، وأفلام هابطة ، وملابس خليعة ، ومناظر ومسامع يندى لها الجبين ،
ثم ... يحمد الله أصحابها على توفيقه !! .
الله أكبر !! لقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .
يشقى أحدهم بحياته ، ويُشقي من حوله !! يغضب ، يثور، يضرب ، وقد يُطلق لأتفه الأسباب ، ولا يغار ، ولا يحرك ساكنا إذا شتم أو سمع من يشتم الذات الإلهية ، أو الدين !! ،
وآخر لا يحرك ساكنا إذا رأى أخته ، أو زوجته أوابنته ، متبرجة كاسية عارية ، في المجالس المختلطة ، أو أماكن العمل ، واللهو، والأسواق . وقد يدفعهن إلى الخبث هو بنفسه ، ليكنَ سلعا رخيصة لتحقيق متاع زائل !! .
يتنحى جانبا ليدع محارمه ، يخلون مع غير ذي محرم منهن ، أو يسافرن بلا محرم ، ولايرى في ذلك بأسا !! . فهل يأمن عليهن من شياطين الإنس والجن ؟؟ أم على قلوب أقفالها ؟؟ .
فعن عمر رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ). ( صحيح ) ( رواه الترمذي ) انظر : [ مشكاة المصابيح جـ 2 رقم 3118 ] .
وفي رواية :- ( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال انطلق فحج مع امرأتك ) متفق عليه . انظر : [ مشكاة المصابيح جـ 2 رقم 2513 ] .
لقد قدَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفر الصحابي مع امرأته ليكون محرما لها في سفرها إلى الحج ، على الجهاد في سبيل الله !! ألا ليت قومي يعتبرون ! .
قال شيخنا الألباني رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مأواه : ( ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لإبنته بالخروج إلى الشارع سافرة بغير حجاب شرعي ، ثمَ يأبى أن يراها الخاطب في دارها وبين أهلها بثياب الشارع ! وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لايغارون على بناتهم – تقليدا منهم لأسيادهم - الأوروبيين – فيسمحون للمصور أن يصوَرهن وهن سافرات سفورا غير مشروع ، والمصوَر رجل أجنبي عنهم ، وقد يكون كافرا ، ثم يقدَمن صورهن إلى بعض الشبان، بزعم أنهم يريدون خطبتهن ، ثم ينتهي الأمر على غير خطبة ، وتظل صور بناتهم معهم ليتغزلوا بها ، وليطفئوا حرارة الشباب بالنظر إليها . ألا فتعسا للآباء الذين لا يغارون ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ) انتهى كلامه . انظر : [ السلسلة الصحيحة 99. المجلد الأول صفحة 208- 209 ] .
لقد ذم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الديوث الذي تبلَدت أحاسيسه ، يرى الخبث في أهل بيته فيقرَه ولا يغار عليهم ، وتوعًده الوعيد الشديد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا، الديوث ، والرجلة من النساء ومدمن الخمر ) ( صحيح ) رواه الطبراني في الكبير عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - . [ صحيح الجامع 3062 ] .
وفي رواية :- ( ثلاثة لايدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، ورجلة النساء) صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر - رضي عنهما - . [ صحيح الجامع 3063 ] .
[ احترام غيرة الآخرين ]
إنه لخلق جميل علمنا إياه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وهو احترام مشاعر الآخرين باحترام غيرتهم، ومنه احترام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيرة الصحابة - رضي الله عنهم- ، ولنا فيهم أسوة حسنة .
فعن جابر- رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفا من أمامي ، فقلت : من هذا ياجبريل ؟ قال هذا بلال ، ورأيت قصرا أبيض بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا: لعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك فقال عمر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! أو عليك أغار ) (متفق عليه ) .
وقد اخرجه مسلم من وجه آخر مختصرا . انظر : [ الصحيحة 1405 . صحيح الجامع رقم: 3478 ] .
وكذلك احترام أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها وعن أبيها - ، لغيرة زوجها الزبير - رضي الله عنه - ، فقد قالت : ( جئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ، ثمَ قال : إخ إخ ، ليحملني خلفه ، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته ، وكان أغير الناس ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَي قد استحييت فمضى ) متفق عليه .
إنه الحياء... شعبة من شعب الإيمان ، إنه الحياء.... لا يأت إلا بخير ، ذكرت غيرة زوجها - رضي الله عنه -، فحفظته في الغيب والشهادة . - رضي الله عنها وأرضاها - .
اللهم ثبت الإيمان في قلوبنا، وفقهنا في ديننا ، وردنا إليك ردا جميلا .
من محاضرات الملتقي الأسري بمركز الإمام الألباني - رحمه الله تعالى -
بقلم وتقديم : أم عبدالله ــ نجلاء الصالح
بقلم وتقديم : الأخت أم عبدالله ــ نجلاء الصالح حفظها الله :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :-
لقد كانت الغيرة موجودة حتى في بيت النبوة ، بين نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فها هي السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - ، لما انقضت عدتها من أبي سلمة - رضي الله عنه - ، أرسل إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبها، فقالت إن لي بنتا وأنا امرأة غيور ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أما إبنتها فندعو الله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله ان يذهب بالغيرة ) صحيح رواه مسلم [ 3/918 ] .
وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - من أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وأشدهن غيرة ، لكنها لم تمنعه بحبها له حقا منحه الله تعالى إياه أو شرعا أدَاه .
ولقد أهدته إحدى زوجاته - صلى الله عليه وسلم - إناء به طعام في يوم عائشة - رضي الله عنهن - فألقته فكسرته ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( طعام بطعام ، وإناء بإناء ) [ صحيح الجامع 3911 ] .
وفي رواية : ( طعام كطعامها وإناء كإنائها ) [ صحيح الجامع 3912 ] .
وقد قالت - رضي الله عنها - : ( ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجه رضي الله عنها ، وما رأيتها قط ، ولكن كان يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثمَ يقطعها أعضاء ثمَ يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له ، كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة ، فيقول : إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد ) متفق عليه .
وفي رواية : قالت - رضي الله عنها - : فأغضبته يوما ، فقلت : خديجة ؟ فقال : إني رزقت حبها ) [ مختصر صحيح مسلم 1672] .
وعنها أيضا - رضي الله عنها - قالت : ( استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فعرف استئذان خديجة ، فارتاح لذلك ، فقال : " اللهم هالة بنت خويلد " ، فغرت . فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر فأبدلك الله خيرا منها ) [مختصر مسلم 1674 ] .
قال شيخنا الألباني يرحمه الله تعالى في التعليق على الحديث : زاد أحمد في رواية : ( قالت : فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ، أو عند المخيلة ، حتى ينظر أرحمة أم عذاب ) [ وإسناده على شرط مسلم ] .
وفي رواية أخرى له قال : ( ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزفني الله عز وجل منها ولدها إذ حرمني أولاد النساء ) .
وفي رواية أخرى له وللطبراني ذكرها الحافظ في الفتح (7/ 107 ) من طريق نجيح عنها بلفظ : ( فغضب حتى قلت : والذي بعثك بالحق لا أذكرها بعد هذا إلا بخير ) [ مختصر صحيح مسلم صفحة : 445- الحاشية - ] .
وعنها - رضي الله عنها - أنها قالت : قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : حسبك من صفية كذا وكذا ،
[ قال بعض الرواة : تعني قصيرة ] فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) [ صحيح الجامع 5140 ] .
الله أكبر!! كلمة " قصيرة " ، لو مزجت بماء البحر لمزجته ، فكيف بكلام كثير من الناس في زماننا هذا ، وما الذي سيمزجه ؟؟ رحمــــــــــــــاك ربي .
أما لنا في حسن عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشرته ، وتوجيهه ، وفي حسن خلق أمهات المؤمنين والصحب الكرام - رضي الله عنهم - أجمعين أسوة حسنة ؟؟ .
أخي في الله ... أختاه : إنها دعوة إلى سباق ... سباق محبة في الله - عز وجل - ، لننال محبته - سبحانه - ، سباق إلى الأفضل ، سباق إلى سعادة الدارين : الدنيا والآخرة مع من نحبهم في الله ، وبالذات مع الأزواج ، لأن الغيرة فيهم وعليهم أشد . ما أجمل أن يجمع بين الزوجين حب في الله ، إلى جانب المودة والرحمة .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تحابَ رجلان في الله إلا كان أحبهما إلى الله عز وجل إشدهما حبا لصاحبه ) (حديث صحيح) انظر : [ الصحيحة 450 ] .
وعنه - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تحاب إثنان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حبا لصاحبه ) (حديث صحيح) انظر : [ صحيح الجامع 5594 ] .
إنها سعادة الدنيا : بالتوافق ، والإنسجام ، وراحة النفس ، والطمأنينة والقناعة ، والرضا والتسليم لأمره . والمسابقة إلى الخيرات بإذنه ، وتقديم محبة الله ورسوله على الأهواء والشهوات ، واغتنام الأوقات سويا في الطاعات ، فذلك خير من ضياعه هدرا بالمشــاكل والخلافــات .
وسعادة الآخرة :- لقوله تعالى : - ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون ) [ يس 55 -- 56 ] .
إن المحبة فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء ، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،
قد تتحول بكثرة المشاكل ، والصدَ ، والعناد ، والعتاب ، والبعد عن المنهج الرباني الذي ارتضاه - سبحانه - ، مما يحمل أصحاب هذه القلوب على البحث عن المودة ، والرحمة ، والراحة ، ليسكنوا إليها .
فلنتق الله في أنفسنا ... فلنتق الله في أزواجنا ... فلنتق الله في أبناءنا ... ولنتق الله فيمن نحب !!
نعم نغار ... نغار عليهم من نسمة هواء تؤذيهم ، ومن أي عمل يرديهم !! .
نعم نغار ... لكن ليس بالقدر الذي يجعلنا كالطوق حول أعناقهم ، يتمنون زواله !!
نعم نغار ... لكن لا ينبغي أن نمنعهم حقا منحهم الله تعالى إياه ، بل نرضى ونسلم لقضاه !! .
ونسأل الله تعالى أن لا يجعلنا ممن قال فيهم : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * اؤلئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) [ البقرة - 85- 86 ] .
إن المحبة لا تأتي بفرض الذات ، ولا بالسيطرة وحب التملك ، ولا يُسعى إليها بالمعاصي ، والظلم ، والشعوذة والتعاليق والحجب ، بل إن ذلك كله من أهم أسباب زوالها .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما تواد إثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ) (حديث صحيح) انظر : [ صحيح الجامع 5603 ] .
اخي في الله ... أختاه : - إنَ فاقد الشيء لا يعطيه ، فكونوا على ثقة بأنفسكم ، وامنحوا الكثير من المحبة والثقة لمن حولكم، تجدونهم أكثر لكم حبا ، وأشد بكم تمسكا .
كونوا عونا لهم على طاعة الله ، وتقوى الله ، ومحبة الله وما والاه .
وادعوا الله تعالى أن يجمعكم بهم مع المتحابين في جلاله ، وأن يظلكم يظله يوم لا ظل إلا ظله .
وتذكروا قوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) الزخرف 67 .
وقوله تعالى : ( فإذا جاءت الصاخَة . يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرىْ منهم يومئذ شأن يغنيه ) عبس 32 – 37 .
وعليكم بالغيرة المحمودة ، إذ أنها خاصية النفوس الشريفة الزكية ، التي زينت بتقوى الله تعالى والرضى بقضاه ، وهذبت بالأخلاق الكريمة ، ونقيت من الأخلاق الذميمة ، وتوقفت عند حدود الله ابتغاء مرضاة الله - سبحانه - ، " توحيدا واتباعا " .
إن الغيرة على الأعراض في الجاهلية ، كانت تعد من مكارم الأخلاق ، نشبت بسببها حروب ، وغزوات ، ووئدت بنات ، غيرة عليهن ! ، خشية وقوعهن بالفاحشة إن كبرن ، وما قد يلحقن بأهليهن من عار !! .
وبعد أن منَ الله علينا بالإسلام حرَم وأد البنات ، وحث على درء المفاسد . حفظ الحقوق ، وحرَم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وشرع الجهاد بشروطه ، لتصان النفس والدين ، ويصان العرض والأرض، ومن قتل دون ذلك نال الشهادة .
فعن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) صحيح رواه : (أحمد ) انظر : [ صحيح الجامع 6445] .
فما بال المسلمين في أيامنا ؟ غارت الغيرة من نفوسهم ، وذهب الحياء، فذهب ماء الوجوه وبهاؤها ، إلا ما رحم ربي .
من النساء من تغار من الكافرات والمتبرجات ، فتقلدهن تقليدا أعمى ، في اللباس ، والتسريحة ، والمشية ، والكلام .. وفي السلوك ، والأخلاق . فكثر التبرج ، والإختلاط ، والسفور، والفسق ، والفجور . نسأل الله العافية .
وللأسف لحق بهن ــ أشباه الرجال ــ يحثون المسير نحو متاع دنيوي زائل ، ويضعون أمر الدين جانبا ، يجاهرون بالمعاصي ... أغان ساقطة ، وأفلام هابطة ، وملابس خليعة ، ومناظر ومسامع يندى لها الجبين ،
ثم ... يحمد الله أصحابها على توفيقه !! .
الله أكبر !! لقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم ويحسبون أنهم يحسنون صنعا .
يشقى أحدهم بحياته ، ويُشقي من حوله !! يغضب ، يثور، يضرب ، وقد يُطلق لأتفه الأسباب ، ولا يغار ، ولا يحرك ساكنا إذا شتم أو سمع من يشتم الذات الإلهية ، أو الدين !! ،
وآخر لا يحرك ساكنا إذا رأى أخته ، أو زوجته أوابنته ، متبرجة كاسية عارية ، في المجالس المختلطة ، أو أماكن العمل ، واللهو، والأسواق . وقد يدفعهن إلى الخبث هو بنفسه ، ليكنَ سلعا رخيصة لتحقيق متاع زائل !! .
يتنحى جانبا ليدع محارمه ، يخلون مع غير ذي محرم منهن ، أو يسافرن بلا محرم ، ولايرى في ذلك بأسا !! . فهل يأمن عليهن من شياطين الإنس والجن ؟؟ أم على قلوب أقفالها ؟؟ .
فعن عمر رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – : ( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان ). ( صحيح ) ( رواه الترمذي ) انظر : [ مشكاة المصابيح جـ 2 رقم 3118 ] .
وفي رواية :- ( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ، فقام رجل فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا ، قال انطلق فحج مع امرأتك ) متفق عليه . انظر : [ مشكاة المصابيح جـ 2 رقم 2513 ] .
لقد قدَم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفر الصحابي مع امرأته ليكون محرما لها في سفرها إلى الحج ، على الجهاد في سبيل الله !! ألا ليت قومي يعتبرون ! .
قال شيخنا الألباني رحمه الله وجعل الفردوس الأعلى مأواه : ( ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لإبنته بالخروج إلى الشارع سافرة بغير حجاب شرعي ، ثمَ يأبى أن يراها الخاطب في دارها وبين أهلها بثياب الشارع ! وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لايغارون على بناتهم – تقليدا منهم لأسيادهم - الأوروبيين – فيسمحون للمصور أن يصوَرهن وهن سافرات سفورا غير مشروع ، والمصوَر رجل أجنبي عنهم ، وقد يكون كافرا ، ثم يقدَمن صورهن إلى بعض الشبان، بزعم أنهم يريدون خطبتهن ، ثم ينتهي الأمر على غير خطبة ، وتظل صور بناتهم معهم ليتغزلوا بها ، وليطفئوا حرارة الشباب بالنظر إليها . ألا فتعسا للآباء الذين لا يغارون ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ) انتهى كلامه . انظر : [ السلسلة الصحيحة 99. المجلد الأول صفحة 208- 209 ] .
لقد ذم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الديوث الذي تبلَدت أحاسيسه ، يرى الخبث في أهل بيته فيقرَه ولا يغار عليهم ، وتوعًده الوعيد الشديد بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا، الديوث ، والرجلة من النساء ومدمن الخمر ) ( صحيح ) رواه الطبراني في الكبير عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - . [ صحيح الجامع 3062 ] .
وفي رواية :- ( ثلاثة لايدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، ورجلة النساء) صحيح رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر - رضي عنهما - . [ صحيح الجامع 3063 ] .
[ احترام غيرة الآخرين ]
إنه لخلق جميل علمنا إياه رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ، ألا وهو احترام مشاعر الآخرين باحترام غيرتهم، ومنه احترام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغيرة الصحابة - رضي الله عنهم- ، ولنا فيهم أسوة حسنة .
فعن جابر- رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفا من أمامي ، فقلت : من هذا ياجبريل ؟ قال هذا بلال ، ورأيت قصرا أبيض بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ قالوا: لعمر بن الخطاب ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك فقال عمر : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! أو عليك أغار ) (متفق عليه ) .
وقد اخرجه مسلم من وجه آخر مختصرا . انظر : [ الصحيحة 1405 . صحيح الجامع رقم: 3478 ] .
وكذلك احترام أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها وعن أبيها - ، لغيرة زوجها الزبير - رضي الله عنه - ، فقد قالت : ( جئت يوما والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من الأنصار فدعاني ، ثمَ قال : إخ إخ ، ليحملني خلفه ، فاستحييت أن أسير مع الرجال ، وذكرت الزبير وغيرته ، وكان أغير الناس ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَي قد استحييت فمضى ) متفق عليه .
إنه الحياء... شعبة من شعب الإيمان ، إنه الحياء.... لا يأت إلا بخير ، ذكرت غيرة زوجها - رضي الله عنه -، فحفظته في الغيب والشهادة . - رضي الله عنها وأرضاها - .
اللهم ثبت الإيمان في قلوبنا، وفقهنا في ديننا ، وردنا إليك ردا جميلا .
من محاضرات الملتقي الأسري بمركز الإمام الألباني - رحمه الله تعالى -
بقلم وتقديم : أم عبدالله ــ نجلاء الصالح